Tuesday, February 25, 2020

عن النمو والنضج والخسارة وأشياء أخرى

تحكي لي صديقتي (العزيزة جدا) عن الإرهاق والأرق الذي عانته أثناء فترة فطام ابنها الذي أوشك على إتمام العامين..ونوبات الغضب التي يمر بها بعدها..
أتأمل حاله وحالنا.. 
نحن الكبار نطلق على الأطفال أحكاما وإن لم نشعر أو نعلنها..
فالطفل الذي يتم مرحلة الفطام أو تدريب دخول الحمام بسرعة ويسر طفل سهل وسلس..
أما الطفل الذي تطول فترة فطامه ويتخللها ساعات طويلة من البكاء والغضب أو تطول فترة تدريبه على دخول الحمام وتتخللها الكثير من الحوادث فهو طفل عنيد صعب المراس..
فأسأل نفسي..ماذا عنا نحن الكبار "الناضجون"؟ 
هل نتقبل التغيرات الكبيرة في حياتنا بسهولة؟
كم من الوقت نستغرق لنتخطى ما خسرنا أو نتقبل وجود الخسارة في حياتنا؟
يبكي الطفل ويرمي نفسه أرضا ويرفس بقدميه ويصرخ بوسعه ليسمع أمه وأهل البيت والجيران والحي والعالم أنه يرفض هذه الخسارة..
يرفض أن يخسر أهم وأكبر ما امتلك..ماما
في عامه الثاني يدرك الطفل أن العالم يتسع من حوله..لكنه يعلم أنه هناك دوما ماما..ماما التي أعود لصدرها حين أتعب بعد ساعات من اللعب فأغفو في قيلولة لأستعيد نشاطي..
أو أعود لحضنها حين أسقط وأتألم فيذهب عني كل سوء..
حضن ماما وماما التي ظننتها ملكا أبديا..
الملاذ والأمان والدفئ ..
هذه النبتة الصغيرة التي تفتحت للتو للعالم..كيف لنا أن ننتظر منها أن نخلعها من تربتها بلا صراخ؟
نشفق على الصغير لكننا نرى الصورة الأكبر..
نرى ما بعد الرفض والألم والخسارة:
خطوة جديدة نحو مزيد من النمو والنضج 
فلا يثنينا صراخه.

نحن كبار..لا نصرخ ولا نبكي ولا نرتمي أرضا..
لا نخبر بصراخنا  العالم أننا نرفض ما يتطلبه التغيير من خسارة..
أتذكر أول عام من الجامعة كم كان صعبا علي وعلى الكثير من صديقاتي..
في البداية كان الجزء المراهق فينا سعيدا متحمسا بالمغامرة الجديدة..ركوب المواصلات وحدنا..الذهاب إلى الجامعة بلا حقيبة ظهر ولا واجبات أو كشاكيل بل أجندة سلك..الحرية في حضور المحاضرات أو التغيب عنها..كان لهذا الاستقلال بريقا لامعا..
ثم أدرك الطفل بداخلنا ما خسره..اللمة والصحبة وأصدقاء المدرسة..
الود والقرب الذي كان بيننا وبين معلمينا ومعلماتنا وحنانهم وحرصهم..
مبنى المدرسة الذي ضمنا وضم الأصدقاء وعرفناه شبرا شبرا فبات الآن صغيرا جدا مقارنة بأروقة الجامعة الشاسعة الباردة.
أتذكر الحزن الذي كانت تمر به صديقتي (العزيزة جدا) في الشهور الأولى في كليتها لأنها كانت تمضي وقتها كله هناك وحيدة بلا رفقة أو أصدقاء..
أتذكر زميلتي التي كانت تتمنى العودة ولو ليوم من أيام المدرسة وظلت -لقرابة العام الأول كاملا- تحكي لي عن أصدقائها ومعلميها حتى ظننت أني لو رأيتهم سأعرفهم واحدا واحدا..
أما أنا فلا أتذكر كم استغرقت من وقت..لأني كنت أهرب كثيرا إلى الغياب..كنت أفضل بقائي في البيت وصحبة أمي وإخوتي..
أقارن بين حالنا وبين حال الأطفال..
هل يحتاج الطفل في عامه الأول من الروضة إلى فصل دراسي ناهيك عن عام دراسي كامل حتى يتقبل المدرسة الجديدة والأصدقاء الجدد وغياب ماما خلال اليوم الدراسي؟
أظن أن نتيجة المقارنة ستكون في صالح الأطفال وإن أظهروا الصخب في الرفض فهم أكثر مرونة وقدرة على تقبل التغيير وبالتالي الانتقال لمرحلة جديدة من مراحل النمو والنضج.. 
هل سمعتم يوما عن كبير ناضج يعاني من ال separation anxiety?
عن نفسي(سابقا) لا،  عادة كنت أسمع هذا المصطلح (قلق الانفصال)  في سياق الحديث عن الأطفال في الشهر السادس أو الأطفال قبل عمر عامين بشكل عام..
في السابق كنت أظن أن هذا القلق متعلق ببكاء الطفل عند غياب أمه عن عينيه فقط..
حتى تلك اللحظة التي أدركت فيها أنني أعاني منه.. 

لثلاث سنوات كاملة من زواجي لم أتقبل التغيير الجديد في حياتي..
لثلاث سنوات لم أتقبل أنني وأقرب أحبائي لن نعيش في بلد واحد لسنين لا أعرف مقدارها..
لثلاث سنوات من زواجي لم أتقبل أن الصغيرة المدللة من الجميع كانت فصلا من القصة وانتهى ليبدأ فصل جديد..

بعد شهر ونصف تقريبا من زواجي سافرت أمي عائدة لبلد إقامتها..
وفي ليلة سفرها بكيت كالأطفال..بكيت بصوت عال مسموع..
بكيت كأنني كنت أعرف لحظتها أن التغيير والنضج الحقيقي كان في انفصالي عن عائلتي وليس في زواجي..
تلت أمي في السفر بعد عام أختي الكبيرة..
أمي وأختي كن أقرب أصدقائي..وطوال حياتي لازمني شعور أنني أستطيع أن أستغنى بهن عن كل الأصدقاء..وأن أستغنى بأمي وأبي وأخوتي عن كل الناس.

عانيت من الاكتئاب لثلاث سنوات.. أرتدي نظارة بعدسات رمادية على عيني حتى نسيت شكل الأيام بألوان أخرى..
ثم من الله علي ومسح على قلبي فرزقني الرضا والسكينة وبصرت بما لم أبصر به من قبل.

ما هي الفترة المناسبة لتقبل التغيير؟
لا أدري
أظن أن لكل منا رحلته الخاصة ومقاييسه الخاصة أيضا..
ما تعلمته في رحلتي هو أن لا نضج بلا خسارة ولا خسارة بلا ألم..
 وأن الألم لا يدوم لكن الجرح قد
 يدوم إن تجاهلنا الطفل الصغير في داخلنا..
هذا الطفل الذي يصرخ ويرفس بقدميه رافضا للخسارة لا تخرسوه..ولا تتنكروا لجرحه وتتركوه ليهدأ وحده..
احتضنوه وربتوا على ظهره وأظهروا تعاطفكم معه..
قولوا له أن الشعور بالألم من حقه..احترموا ألمه واتركوا له الوقت ولا تتعجلوه ..


فقط حينها تكبر النبتة وينمو لها عودا أخضرا جديدا..

Monday, February 24, 2020